واسيني الأعرج في ضيافة “الخرطوم الجديدة” يشرب قهوته على ضفاف النيل،

* كلما تعمق الكاتب في محليته يرتقي بإنسانيته
* غادرت الجزائر كي أكون صوتاً للذين فقدوا أصواتهم
* أؤمن بأن الهوية ليست كياناً مغلقاً بل حالة من الانفتاح الدائم
* رواية “ذاكرة الماء” تجسيد لخيبة الإنسان الجزائري في السلطة
* الجوائز الأدبية فرضت أسماء كثيرة والكثير منها اندثر ومات
حاورته : رانيا بخاري
وأنا في طريقي إلى مقر إقامة الأديب الكبير واسيني الأعرج، ضجت ذاكرتي بعدة أشياء، ففي تسعينيات القرن الماضي نشبت حرب أهلية في أرض المليون شهيد، أودت بحياة مائتي ألف ضحية، وأصبحت الحياة مستحيلة وخانقة، وفي العام 1994 ارتحل كاتبنا عن مريم الوديعة، إلى فرنسا، بدعوة من جامعة السوربون والمدرسة العليا للأساتذة، والتحق بسلك التدريس، ولكنه لم يتوقف عن الكتابة، لقد ظل المنجز قبل وبعد الاستقلال مسرحاً لإعادة سؤال الهوية تحت إكراهات خطاب القهر والاستلاب والنفي، فكان لابد من إنتاج نص جزائري يعبر عن محيطه الكوني.
إلا أن أغنية التروبادور للجزائر، للشاعر صلاح أحمد إبراهيم، أزاحت كل تلك الأشياء، ووجدت لساني يردد:
“عقيرتي تجيشُ أغنيات عاشق، تُرقِّقُ الغناء
يا ليتني رصاصة تُطلقها الجزائر
أو شمعةُ ساهرةُ تؤنس ليل ساهر
أو (كلمةُ السِّر) تقود ثائراً لثائر”
ومن ثم دلفت إلى بهو الفندق، واقتحمته. وهكذا يكون إجراء الحوار مع الأديب واسيني الأعرج، فرصة يجب اغتنامها متى ما سنحت لك، ورحب بإجراء الحوار مع (الخرطوم الجديدة) بالرغم من عدم وجود موعد مسبق.
ومن بين عدة أسئلة تطرح نفسها، مثل: هل استطاعت الرواية الجزائرية أن تسقط قيودها وتمضي متحررة؟ وهل نجحت الرواية المكتوبة باللغة العربية في رهان المقروئية؟ عن لي سؤال تاريخي عن رائد القصة الجزائرية، أحمد رضا حوحو، فبدأت به كمدخل.
* الكاتب رضا حوحو، ومن خلال علاقته بالمشرق التي أعطته شرعية للتكسير والخروج من سلطان المقدس اللغوي لخلق نص جزائري، هل استطاع ذلك؟
– هو من أهم مؤسسي الرواية، أقام في السعودية في الأربعينيات وكتب هناك أول رواية، وسماها (غادة أم القرى)، وتناول فيها وضعية المرأة السعودية، ولكنه كان يقصد المرأة العربية في ظل التقاليد البالية التي تحرمها من حقها في الحب والزواج، مما تسبب في طرده من مجلة (المنهل) التي كان يعمل بها، لأن مثل هذا الرأي لم يكن مقبولاً في ذلك الوقت، ولكن رضا حوحو بدأ المنجز المكتوب بالعربية في ظل هيمنة اللغة الفرنسية، وذلك أعطاه شرعية الكتابة والإبداع لأنه كان مزدوج اللغة ومتأثراً بالمنجز الفرنسي، ومنذ تلك اللحظة بدأ يكتب القصة القصيرة، وانضم نهائياً إلى جمعية العلماء المسلمين التي كانت تدافع عن الهوية العربية الإسلامية، وعن اللغة العربية، وعلى الرغم من اختلافه معهم ظل يُعلم المسرح واللغة العربية ويكتب القصص ويترجم إلى اللغة الفرنسية، مما جعله أهم مثقف باللغة العربية في تلك الحقبة، حتى اغتالته السلطة الاستعمارية في العام 1956.
* ما الذي ينبغي على الرواية فعله لتصبح جزءاً من الذاكرة الجمعية الإنسانية، أي كمنجز إنساني وليس كمجهود فردي أو اجتماعي مرتبط بمحلية تضيق بالمنجز ولا تدفع به؟
– بطبيعة الحال نعترف به كمنجز فني خاص بكاتب من الكُتاب، وهذا الكاتب ينتمي إلى ثقافة معينة ولغة وبلد وثقافة إنسانية أوسع، لهذا هو حين يكتب، يكتب عن أرض يعرفها جيداً في الوقت نفسه يكتب عن قضايا تتماهى مع المحلية وتتجاوزها أيضاً، إذ أنه يشتغل على القضايا التي تهم الإنسان في نهاية المطاف، كقضايا الحب والحروب والخوف والصراعات ووضعية الإنسان والاعتداءات والاغتصاب والظلم الاجتماعي، على الرغم من محليته إلا أنها تمس الإنسان أينما كان، لهذا يخطئ من يعتبره مجهوداً فردياً، وبقدر ما يتعمق الكاتب في محليته يرتقي بالضرورة بإنسانيته، الكاتب المميز هو الذي يستطيع أن يلمس الجوهر متجاوزاً بذلك ما يطفو على السطح.
* كيف تكون المقاومة باللغة؟
– اللغة هي جسد النص لذلك لا يستطيع الكاتب الخروج من جلده، لذلك ظلت الذات الإبداعية في الجزائر إبان فترة الاستعمار الاستيطاني في حالة حوار مع محيطها الاجتماعي والثقافي والتاريخي، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية وتفكك الاستعمار الاستيطاني ظهرت نزعات التحرر الوطني الذي اقترن بما يسمي بداية صعود فجر الرواية، الذي بدأ بظهور كتاب المستعمرات الذين فرض عليهم المستعمر لغته، وقد واكب ذلك هجرة الكثيرين من أوطانهم المستعمرة إلى أقطار المستعمرات للعمل أو الدراسة، الأمر الذي جعل الكثيرين منهم مزدوجي اللسان، بل وصل الأمر ببعضهم إلى نسيان الكتابة باللغة الأم وعدم إتقان الكتابة بها، لذا أصبحت الكتابة بلغة الآخر عادة متأصلة، وأفرز ذلك كتاب المرحلة الكولونيالية المرتبطة بالاستعمار الاستيطاني، ونتيجة لذلك برزت ظاهرة الأدب المقاوم التي يمثلها مالك حداد، ومحمد ديب، وكاتب ياسين، واَسيا جبار، ومولود معمري، الذي دافع عن ذلك الأدب قائلاً: “إن اللغة فرنسية ولكن التعبير جزائري”، وبرر الآخرون استعمالهم للغة الفرنسية بأنهم يكتبون أدباً جزائرياً وأن استعمالهم للغة الفرنسية مجرد وسيلة تشبه استعمال الرسام لأوان صنعت في فرنسا أو أي دولة.
* اللغة الفرانكفونية هل استطاعت أن تكون حاملاً جيداً للمتخيل الروائي كالهم الوطني، والهوية؟ وأيهما استطاع النجاح في رهان المقروئية العربية أم الفرنسية؟
– النخبة الفرانكفونية في الجزائر والمغرب كتبت بالفرنسية لظروف نعرفها جميعاً تتعلق بالاستعمار الفرنسي الذي تجاوز القرن، فترك وراءه بنية لغوية على الرغم من قسوته وأنها كانت على حساب العربية، إلا أنها أسهمت وتسهم إلى اليوم في الحركة الثقافية الوطنية، فالكتاب الفرانكفونيين استعملوا اللغة كغنيمة حرب كما كان يقول كاتب ياسين، الذي استطاع في روايته (نجمة) أن يقول ما قامت به الجزائر بكل تاريخها وتعطشها إلى الحرية والاستقلال والعدالة والحب، ويكفي أن ننظر إلى النخبة الوطنية الفرانكفونية لنكتشف العمل العظيم الذي قامت به خلال الثورة، نجد بجانب كاتب ياسين, مولود معمري