
بقلم: المستشارة جيهان الشاهد
في زوايا المؤسسات ، داخل الفصول الدراسية ، في حافلات النقل العام ، وحتى خلف جدران البيوت ، يتسلّل شكل خفيّ من الانتهاك :
تحرّش لا تحرّكه فقط الرغبة، بل يغذّيه شعور متضخّم بالسلطة .
إنه تحرّش يرتدي أقنعة متعددة — مدير متسلّط ، أستاذ جامعي يستغل مكانته، قريب يُسيء استخدام موقعه داخل الأسرة، أو موظف يفرض سلطته على أجساد الآخرين في فضاء عام .
هذه الأفعال ليست حوادث فردية معزولة، بل انعكاس لما يُعرف بـ “إدمان السلطة” — ذاك الإضطراب الذي يجعل من الشعور بالقوة لذةً تتجاوز الأخلاق وتُخدّر الضمير .
تكمن خطورة هذا النوع من التحرش في تداخله مع مراكز النفوذ، فكلما زاد الفارق بين المتحرش والضحية من حيث السلطة أو التأثير، زادت صعوبة المواجهة والمحاسبة، وغالبًا ما يكون الضحايا في موقع أضعف :
طالبات، موظفات حديثات، نساء في بيئات تقليدية، اطفال في عمر الزهور ، أو أشخاص بلا سند قانوني واضح .
وتزداد المأساة حين تتحول المؤسسات إلى بيئات تبرر هذا السلوك أو تصمت عنه .
فمن الزاوية النفسية، كثير من المتحرشين ليسوا فقط ذوي نوايا سيئة، بل قد يكونون ضحايا سابقين لتجارب قهر أو إذلال عميق .
شخص تعرض في طفولته لإهمال، أو لإهانات متكررة ، أو لعنف جسدي ، قد يُعيد إنتاج هذا الألم في الكبر بطريقة منحرفة عبر فرض السلطة على الأضعف .
وبدلا من أن يطلب العلاج، أو يعيد النظر في جراحه القديمة، يبحث عن تعويض نفسي وهمي يُشعره بالقوة !!!!!.
السلطة هنا ليست أداة لإنجاز المهام، بل وسيله لاحتلال المساحات الشخصية للآخرين ، والسيطرة على مشاعرهم وأجسادهم .
هذا ما يتجلى بوضوح في شخصية الضابط “هشام” التي جسدها أحمد زكي في فيلم زوجة رجل مهم .
هشام لم يكن مجرمًا منذ البداية، بل رجل سلطة عاش مدمنًا على الشعور بالهيمنة ، وكانت وظيفته كضابط أداة لإشباع هذا الإدمان.
وحين بدأ يفقد هذه السلطة — بعد رفض زوجته الخضوع له وإيقافه عن العمل — انكشفت هشاشته ، فانهار نفسيًا ، وتحول إلى قاتل .
قتله لوالد زوجته لم يكن فقط جريمة عائلية ، بل انفجار داخلي لشخص لم يتحمّل فكرة فقدان السيطرة .
هذه الشخصية السينمائية تعبّر بدقة عن التحوّل المرضي الذي قد يعيشه بعض مدمني السلطة عندما تهتز صورتهم أو يشعرون بأن نفوذهم يُنتزع .
في مواجهة هذا النوع من التحرش المرضي، لا يكفي الرفض الأخلاقي أو التنديد الإعلامي ، بل لا بد من حلول قانونية واضحة وجادة :
أولًا : يجب تعزيز التشريعات التي تجرّم التحرش الجنسي بشكل صريح في كل السياقات ، وخاصة عندما يكون صادرًا عن طرف يملك سلطة وظيفية أو اجتماعية أو تعليمية.. القانون لا يجب أن يكون محايدًا أمام اختلال موازين القوة .
ثانيًا : تحتاج المؤسسات العامة والخاصة إلى سياسات داخلية ملزمة، تشمل تعريفًا دقيقًا للتحرش، آليات آمنة وسرية للإبلاغ، وضمانات حقيقية لحماية المبلّغين من الانتقام أو العزل . العدالة داخل المؤسسة هي أول حاجز وقائي للمجتمع .
ثالثًا : يجب دعم إنشاء وحدات قضائية أو لجان مختصة تنظر في قضايا التحرش ذات الطابع السلطوي، خاصة تلك التي يصعب إثباتها في ظل العلاقات غير المتوازنة.. وجود خبراء نفسيين واجتماعيين ضمن هذه اللجان سيُسهم في فهم أعمق للدوافع والأنماط السلوكية .
وأخيرًا ، فإن التوعية المجتمعية هي حجر الأساس ، فلا يمكن أن ينهار جدار الصمت دون ثقافة عامة تُشجّع على كسر الخوف ، وتعيد تعريف “القوة” على أنها مسؤولية لا أداة للتسلط .
حين يدرك الفرد أن سلطته تخضع للمساءلة ، وأن الانتهاك مهما صَغُر لا يُغتفر ، فقط حينها يبدأ التغيير الحقيقي .