مقالات

د. عبدالنبى مرزوق يكتب : فيروس كورونا والتداعيات الاجتماعية

 

لا تخلو حياة الأمم والشعوب من الأزمات والمحن، ولكن تتوقف مواجهتها على قوة وحنكة وذكاء الأنظمة الحاكمة أثناء تلك المحن ومن قبل ذلك التعلق بلطف الله في أقداره، وعلى مر التاريخ واجهت الشعوب والحضارات محن على مستويات عدة، منها ما أودى بالملايين من سكانها ومنها ما أودى بحضارات كاملة، ومنها ما واجهته الأمم حتى زالت تلك المحن، والتاريخ الإنساني يزخر بالكثير من المحن التي مرت بها الأمم منذ فجر التاريخ وحتى يومنا، انتصرت فيها تارة وانكسرت تارة وانحسرت عنها المحن تارة أخرى.

 

يقول اللّه عز وجل: “وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ” – [البقرة:155]، لقد عرض الله عز وجل من قصص القرآن الكريم لمحن كبرى قابلت البشرية، والمحن يمكن أن تكون على مستوى الفرد لاختبار إيمانه، وتقوية عوده، أو آية معجزة لبيان قدرة الله في كونه، كما أنّ الله تعالى قد ابتلى الأنبياء والمرسلين، وهم ليسوا عصاة ولا مذنبين فيُظنّ أنّ ابتلاءهم عقاب لهم، لقد غفر اللهُ لجميع رسله ما تقدّم وما تأخّر، ومع ذلك كانوا أشدّ الناس بلاءً، ليرفع الله درجاتهم وليتأسَّى الناس بصبرهم، وعلى وجه آخر قد يكون الوباء بلاءا وعقاباً من الله سبحانه بما كسبت أيدى الناس ليعيد به التوازن للأرض بعد أن أختلت موازينها بين الأغنياء والفقراء، بين الأقوياء والضعفاء، بين الحكام والمحكومين، قال الله عز وجل “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” – [سورة الروم:41].

 

ومع انتشار فيروس كورونا ومنذ موجته الأولى وحصاره لسكان الأرض قاطبة وحيث أصبح بقاء بلايين البشر حول العالم في منازلهم ضرورةً حتمية احترازا وحفاظا على الصحة الشخصية والسلامة المجتمعية، فمع بداية الأزمة واعتبار كورونا وباء عالمي أطلق الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش في ذلك الحين خطة لمواجهة آثاره الاجتماعية والاقتصادية، داعياً الجميع إلى العمل معاً للحد من تلك الآثار الناجمة عن ذلك الوباء، وقد شملت خطة التعامل حزمة تحفيز مالية مع إجراءات سريعة لتعزيز اقتصادات البلدان النامية، ودعم الأنشطة الاقتصادية وبرامج الحماية الاجتماعية، وتوفير حافز مالي لأشد الفئات تأثرا إلى جانب دعم القطاعات الطبية وتجهيز المؤسسات العلاجية بالأجهزة والمعدات والمستلزمات مع توفير الأطقم الطبية المدربة على التعامل في مثل هذه الظروف الاستثنائية، وقد استجابت غالبية الحكومات وأقرت برامج اقتصادية وحزم مالية بأرقام تفوق خيال السامع لدعم النشاطات الاقتصادية والصناعات الوطنية وحماية الفئات الاجتماعية الأكثر تضررا.

 

وإذا كان من السهل معرفة الآثار الاقتصادية لوباء كورونا على الصعيد العالمي، فبحسب مؤسسة بلو مبرج الأمريكية والتي قدرت الخسائر الاقتصادية بنهاية الموجة الأولى والانحسار الجزئي للفيروس بنحو 20 تريليون دولار وهو ما يمثل 20% من حجم الناتج الإجمالي العالمي، واستمرار تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي خلال الموجة الثانية بل وتحقيق معدلات نمو سلبية في بعض الدول الأوروبية، إلا أن معرفة الآثار الاجتماعية يعد أصعب بكثير، وخاصة أن سكان الأرض جميعا قد تأثروا بالإجراءات التي فرضتها أزمة كورونا وأجبرت الغالبية منهم على البقاء في منازلهم، ترسيخا لمبدأ التباعد الاجتماعي كأحد أهم الإجراءات الاحترازية الوقائية، وقد سارع العديد من الباحثين لدراسة الأمر من جميع جوانبه، خاصةً فيما يتعلق بدراسة التداعيات التي أُحدثها ذلك الفيروس وتأثير ذلك على حياتنا الحالية والمستقبلية، ومن ذلك التداعيات الاجتماعية والنفسية وكيفية التخفيف من آثارها السلبية.

 

ومن المعلوم أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، وأنه اعتاد الانفتاح عبر نوافذ النشاط الاقتصادي من العمل والسفر والسياحة والانفتاح التقني والثقافي، وكان من المستحيل مجرد التفكير في أنه سيأتي يوم يتوقف البشر فيه عن العمل والسفر والتنقل ليبقوا في منازلهم بشكل إجباري، إذ لم يكن من السهل على هذه الأجيال دائمة السعي سريعة الحركة أن تستسلم لتلك الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها كل دول العالم من أجل ضمان بقاء الإنسان في منزله وعدم خروجه، وعلى عكس فكرة الرشد السائدة في علم الاقتصاد، والتي تتأسس على “عقلانية” الإنسان، والقيام بسلوكيات رشيدة ومنطقية، ظهر في السنوات الأخيرة فرع جديد يُعرف بعلم الاقتصاد السلوكي، الذي يؤكد على جانب كبير من اللا عقلانية في سلوكيات الأفراد خاصة في أوقات المحن والأزمات، حيث تُشير سيكولوجيا الأوبئة إلى وجود طبيعة مزدوجة للسلوك الإنساني، حيث يغلف بقشرة من العقلانية تُخفي اتجاهات وتحيزات لا منطقية، ففي الأزمات تأخذ اللا عقلانية بزمام الأمور، ويدفع الخوف والهلع والقلق والتوتر الفرد نحو سلوكيات متناقضة وغير منطقية، ويستعيد الفرد نمطًا أشبه بالحياة البدائية غير المتحضرة التي تحركها المشاعر والغرائز والاحتياجات البدائية وهو ما يفسر حالة الشراء واكتناز المواد الغذائية والأدوية بغير حاجة في بداية الأزمة ولجوء بعض الدول المتحضرة إلى القرصنة والاستيلاء على المساعدات الطبية والمعونات الغذائية التي تمر بموانيها ومطاراتها إلى دول أخرى.

 

إن التجربة التي لا زالت تعايشها البشرية حتى لحظتنا الراهنة تحتاج إلى أن تتنبه الدول إلى تلك التداعيات، عليها أن تتحدث صراحة عن الآثار الاجتماعية كما تتحدث عن الآثار الاقتصادية، والدول الماهرة هي من توجه الكثير من طاقاتها لمساعدة شعوبها لتجاوز هذه الأزمة للحد من ارتفاع معدلات البطالة ومعدلات الفقر، إن ما تحتاجه الشعوب اليوم هو المساعدة في استعادة الثقة بأنفسها وطرح البدائل والحلول الحياتية فيما بعد كورونا من خلال برامج ومشروعات تنموية وتوعوية وثقافية حتى يسهل عليها فهم تلك التحولات الاجبارية في المنظومة البشرية بعيدا عن لغة التحذير والترويع لما يترتب عليها من نتائج وتداعيات وخيمة تؤثر على الروابط الاجتماعية وما يتبعها من اختلالات نفسية وسلوكية معقدة.

 

والسؤال الهام الذي لا زال يطرح نفسه هل يمكن أن تساعد تطبيقات الرسائل النصية والبريد الإلكتروني والنقاشات الافتراضية بين الأهل والأصدقاء أو زملاء العمل على الاتصال الفعال مع المجتمع المحيط بنا. يقول نيكولاس كريستاكيس، عالِم الاجتماع بجامعة بيل الأمريكية: “قد نكون محظوظون لأننا نعيش في عصر تساعدنا فيه التكنولوجيا على رؤية أصدقائنا وأفراد عائلتنا والاستماع إليهم وأداء الكثير من أعمالنا وأنشطتنا المهنية والتجارية، إلا أن أنماط التواصل الإلكتروني لا يمكن أن تحل محل التواصل وجهًا لوجه، فكثير من المشاعر الإنسانية تعجز تلك الوسائل عن توصيلها، فكثير من المعاني لا يمكن أن تنتقل عبر التعليقات والتعبيرات اللفظية، إذ يمكن أن تضيع التفاصيل الدقيقة للغة الجسد وتعابير الوجه والإيماءات مع استخدام تلك الوسائط حتى تصبح مجردة من الأحاسيس والمشاعر والدفء الاجتماعي.

 

من جانبه، رأى جيل نعوم -المختص بتدريس أساليب المرونة النفسية من جامعة هارفارد ومستشفى ماكلين- أنه للخروج ناجين من ظروف التباعد الاجتماعي والعزلة الإلزامية، فإننا نحتاج إلى الهدوء والاستعداد النفسي، إن المهارة الأساسية التي نحتاج إلى شحذها في ظل هذه الظروف الصعبة هي المرونة النفسية، والتي تمثل القدرة على تغيير المواقف والإجراءات الواجب اتخاذها عند ظهور أحداث جديدة أو غير متوقعة. وتتيح لنا هذه المهارة التعامل بسهولة أكبر مع الأزمات والمواقف الصعبة، دون الحاجة إلى فترات طويلة من الزمن للتكيف مع المتغيرات الجديدة الناتجة عن تلك الصعاب والأزمات، وعادةً ما يصاحب الأوبئة وقلة المعلومات عنها، موجة من الشائعات التي يطلقها البعض وينجرف خلفها الكثير لتفسير ما يحدث من حولهم، ونظراً لتضارب الآراء وكثرة النظريات والتفسيرات لأزمة جديدة غير واضحة المعالم والأبعاد وندرة المعلومات الصحيحة عنها، لذا تمثل تلك الفترات بيئة خصبة لصعود الشائعات وتبادل الاتهامات بين الدول وبعضها البعض، ولعل الاتهامات المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية بشأن نشأة الفيروس وانتشاره خير دليل على ذلك.

إن أول مهام الحكومات في ظل أزمة كورونا، هو بناء نظم حماية اجتماعية شاملة، لتفادي أي اختلال بالمنظومة الاجتماعية، فإن مقياس نجاح أي اقتصاد في العالم بعيد كل البُعد عن مقدار المنح والدعم الذي يوفره لبعض الفئات ولكن بمقدار ما يوفره هذا الاقتصاد من فرص عمل لائقة وحياة كريمة لمواطنيه.

..

وفيما يلي نقدم بعض النقاط والخطوات للحد من الآثار السلبية للبعد الاجتماعي والاقتصادي لأزمة كورونا، وذلك على المستوى الفردي وأيضا على المستوى المجتمعي

..

أولا: على المستوى الفردي

..

1- توثيق العرى مع الخالق عز وجل وتعزيز الجانب الديني أداءً للعبادة ودعاءً للسلامة، مع اليقين الكامل بحسن الظن بالله والأمل والتفاؤل فيما عنده، وهذا ما يمثل قارب النجاة والحبل المتين لتجاوز تلك المحنة وغيرها من العقبات والأزمات، يقول المولى عز وجل “فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” – [سورة الأنعام:43]، فواجبنا التعلق برحمة والتضرع بالدعاء بأن يكشف الله عنا الوباء وأن يجنبنا شر الداء وعظيم البلاء.

 

2- متابعة الأخبار عن تطور الفيروس، وذلك في اضيق الحدود ومن المصادر الموثوقة، مع محاولة البعد عن الأشخاص السلبيين لما يسببه ذلك من التوتر والخوف إلى حد الهلع

 

3- عدم المبالغة في الإجراءات الاحترازية إلى حد ترهيب وترويع أفراد الأسرة والانعزال التام عن المحيط الاجتماعي، فالفارق بين الحذر والهلع فاصل رفيع من الممكن أن يعصف بالروابط الاجتماعية داخل وخارج الأسرة.

 

4- إدارة حوار أسري من خلال نقاشات مستمرة للتعرف على هموم واهتمامات كافة افراد الأسرة مما يكسر حدة العزلة الاجتماعية ويزيل الكثير من مشاعر الضجر أو الغضب والتي قد تظهر آثارها النفسية مستقبلا، فإذا كان العزل الاجتماعي ضرورة فلا ينبغي أن يكون انعزالا داخل الغرفات والجدران والركون إلى الوحدة والفراغ فكلاهما خطر داهم على الاستقرار الاجتماعي داخل محيط الأسرة، ولتكن منحة للتقارب والتآزر من داخل محنة الوباء والعزلة.

 

5- العمل على شغل أوقات الفراغ، إما بتعلُّم هوايات جديدة، أو أداء بعض المهمات المؤجلة، أو مساعدة الأخرين معنويا كلما أمكن ذلك فخير الناس أنفعهم للناس، مع ضرورة التواصل المستمر بالوسائل الممكنة والآمنة مع الأهل والأحباب والأصدقاء لبث روح الطمأنينة والإبقاء على أواصر الود وصلة الرحم.

 

6- العمل وفق استراتيجية تنويع مصادر الدخل وتفادى القطاعات الأكثر تضررا أو التي لم تعد تحتل موقعا على الخريطة الاقتصادية الجديدة، إضافة إلى أمر بالغ الأهمية بتجنيب سيولة نقدية لمواجهة تلك الأزمات الطارئة حتى لو كان مبلغا قليل لكنه في تلك الظروف يبدو منقذا

 

7- توخى الحذر من الميل إلى الإنفاق الترفى، والاهتمام فقط بضروريات الحياة والتي لا تستقيم إلا بها، مع الاقتصاد قدر الإمكان في المناسبات الاجتماعية من أفراح ومآتم، فالمشاعر الصادقة والألفة الاجتماعية أهم بكثير من المظاهر الفارغة.

8- تعويد افراد العائلة من الكبير إلى الصغير بأن النعمة لا تدوم ومن دواعي شكر النعمة الاقتصاد في استخدامها على الوجه الأمثل لا تقتيرا ولا تبذيرا، فخير الأمور الوسط، وخير النعمة ما تجدها وقت الحاجة.

..

ثانيا: على المستوى المجتمعي

..

1- ترتيب الأولويات المجتمعية في ضوء المستجدات العالمية التي فرضتها أزمة كورونا وعلى رأسها دعم المنظومة الطبية وتحديث البنية التحتية بذلك القطاع إضافة إلى الاهتمام بمنظومة التعليم والبحث العلمي

 

2- التوسع في شبكة الحماية الاجتماعية للفئات الأكثر تضررا من العمالة اليومية والعمالة المتعطلة من القطاعات الاقتصادية التي أصبحت في مرحلة النمو المتناقص ومهددة بعدم الاستمرار والاستقرار (السياحة وكثير من الأنشطة الترفيهية والخدمية)

 

3- نشر برامج التوعية عبر النوافذ الإعلامية لمناقشة الأثار النفسية لأزمة كورونا من خلال المتخصصين والباحثين المهتمين بالعلوم الإنسانية والاجتماعية

 

4- مساهمة المؤسسات التدريبية والمهنية في إعداد برامج للتأهيل التحويلي لبعض المهن والوظائف التي تأثرت بشكل كبير ولن تعود لسابقتها فخريطة الأنشطة الاقتصادية أصبحت في مرحلة إعادة الترتيب لمواجهة المستجدات والمتغيرات العالمية في عالم ما بعد كورونا

..

أخيرًا، فإن الأوبئة تُعد من الخبرات الاجتماعية الناشئة والتي تترك تأثيرات طويلة المدى وتظل انعكاساتها لسنوات طويلة وممتدة، وقد تتسبب في تغيير الملامح الاجتماعية للعديد من الأمم والشعوب خاصة مع زخم التفاعلات التي تصاحب فترة وجود الوباء، الا أن الله عز وجل يسوق المنحة داخل المحنة وقد ظهر ذلك من خلال صور التضامن بين أفراد المجتمع على اعتبار أنه يعاني من تهديد واحد في آن واحد، وذلك من خلال تقديم الدعم المادي والعيني للمرضى وذويهم من خلال العديد من هيئات الدولة ومؤسساتها وكذلك بعض المؤسسات الاجتماعية الأهلية، ولعل تعزيز تلك الصورة من التلاحم المجتمعي تجعل المجتمع قادرا على خلق أفكار جديدة ومبادرات عديدة تسهم بشكل كبير في دعم وتحفيز الجهود نحو مواجهة ذلك الوباء وكافة تداعياته بشكل عام والاجتماعية منها بشكل خاص.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى